اثبات السحر
لا يمر يوم دون أن تروي الصحف قصة من قصص السحر الواقعية ، وقد يظن الناس أن هذا اللون من الدَّجل مقصور اليوم على الأمم المتخلِّفة ، وهذا غير صحيح فإن أكثر شعوب العالم تحضراً تجري فيها طقوس السحر على نحو واســـع وبطرق مختلفـة ، تصل الى الإيـــذاء والقتل
والمؤسـف أن الـــذي يتـــابع أخبار السحرة والمشعوذين في بلادنا العربية والإسلامية يجد أن الأمر لا يقل سوءاً عما يحدث في فرنسا وأمريكا وألمانيا ، وكان المفروض أن لايجد السحرة لهم سوقاً رائجة في ديار الإسلام التي يحرّم دينها السحر ويعده إحدىالموبقات الكبار
ما هي المراحـــل التي مـــرَّ بها السحر عبر الــتاريخ ومــا هي ؟
الحمد لله خالق الإنس والجِنـَّـة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له شهادة تكون لمن تدرّع بها أوقى جُنَّة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي الى الجنة ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي البأس والقوة ، صلاة يَعْظُم بها عليهم مِنَّة وسلِّم تسليماً كثيراً
وبعـــــــد
كما ذكرت أن السحر لكثرة رواجه لا تختص به أمة دون أمة ، فقد راج وشاع في غالب البلدان ، ويمتد تاريخه الى ما قبل موسى عليه السلام،وبما أنه يشيع مع عبادة الأصنام والكواكب - ويعظم فيه الشيطان - فقد بدأ السحر بعد الطوفان في عهد نوح ، فكان أول من عبد الأصنام من بعد الطوفان ومن بعد قوم نوح قوم عاد ، كما جاء في قوله تعالى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } الإسراء 17 · ولما جاء موسى \ الى فرعون وملأه ودعاهم الى الله ، كان السحر رائجاً وقد بلغ هذا الفن القمة ولذلك فقد واجههم موسى عليه السلام بما هو أعظم من السحر ألا وهو المعجزة التي أبطلت سحرهم ، فالسحرة اعتمدواعلى التخييل وسحروا أعين الناس فيما يتعلق بحبالهم كما جاء في قوله تعالى { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } الأعراف 116، وكانوا قد عمدوا الى حبال وعصي فأودعوها الزئبق والمعلوم أن الزئبق يتمدد مع الحرارة فأحدث اضطراباً في هذه الحبال ، أما عصا موسى فعندما انقلبت الى ثعبان كبير كانت حقيقة وليست خيالا وهذا ما أدركه السحرة وعاينوه حقيقة فعلموا أن هذا الأمر لا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم وليس نوعا من أنواع السحر والشعبذة فآمنوا جميعاً
إذا هل نستطيع من خلال هذه الآيات عن قصة سحرة فرعون أن نعتبر أن هناك ما يسمى سحر التخييل وهل للجن قدرة على قلب الحقائق تجاه أعين الناس ؟
إن سحر التخييل هو نوع من أنواع السحر وللجـن في هذا المضمار قدرة عظيمة ، فقد روي عن عمار الذهبي أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه فاشتمل له جندب على السيف فقتله ؟ وجندب هذا الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم :" يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل
ومن سحر التخييل أن رجلا كان يدخل في أست البعير ويخرج من فمها ، فبينما الناس مجتمعون إذ جاء رجل من أهل الصلاح والتقى فعلم حقيقة هذا الساحر وأنه يستخدم الجان في سَحْر أعين الناس ، فقرأ آية الكرسي فانصرف من كان مع الساحر من الجن ، وانكشف للناس الحقيقة فرأوه يدخل من بين أرجل الدابة الخلفية ويخرج من بين أرجلها الأماميتين
وأهم ما يقوم به الجن من سحر التخييل هو كما قال الطبري :" تفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره الى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حسن وجمال ، حتى يقبحه عنده ، فينصرف بوجهه ويعرض عنه ، حتى يحدث الرجل لزوجته فراقاً فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذي كان منه فرقة بينهما " الطبري
إذن فالأعين هي التي تُسْحَر وليست الأشياء فإنها تبقى على حقيقتها وهذا يؤكد أن مناط السحر دائماً هو جسم الإنسان أو حواسه وجوارحه تظهر بسبب بعض المرئيات على غير حقيقتها
لماذا اتهم اليهود سيدنا سليمان بالسحر ووصفوه بالساحر ؟
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُــو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الأخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} البقرة 102
أنّى لليهود أن يكون لهم قول في تصنيف نبي من الأنبياء ، وهم في الأصل تركوا الشريعة المنزلة عليهم ونبذوها وراء ظهورهم ، أنزل الله الى بني إسرائيل شريعة مباركة طيبة هي التوراة فتركوها ونبذوها ، وماذا كانت النتيجة ؟ اشتغلوا بالسحر الذي جعلهم عبيداً للشيطان ، فقال الله فيهم { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الأخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ويفهم من هذه الآية أن الساحر يبيع نفسه في حياته وكل ما يملكه للشيطان
أما دور نبي الله سليمان عليه السلام في محاربة السحر ، يقول سعيد بن جبير في أسباب نزول هذهالآية، كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيّه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، الى أن مات فدنت الى الإنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا نعم ، قالوا فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به فقالوا كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر وقال برأيهم أهل الحجاز فأنزل الله على نبيه محمد براءة سليمان في هذه الآية
كثرت الإسرائيليات في تفسير قصة هاروت وماروت ، وادعى اليهود أن الله ركَّب الشهوة فيهما فلما نزلا الى الأرض لم يمكثا إلا قليلا حتى وقعا فيما حرّمه الله عليهما من الزنى وشرب الخمر ، فما هو القول الفصل في ذلك ؟
هذه الرواية غير صحيحة وأجمع المفسرون أنها راجعة في تفصيلها الى أخبار بني إسرائيل ، كما يقول ابن كثير ، والقرطبي وغيره ، أما القول الصحيح في مهمة الملكين هاروت وماروت ، هي أن الله أنزل السحر على الملكين ببابل فتنة واختباراً وابتلاء ، ولله أن يختبر عباده بما شاء ، وقد خلق الحق تبارك وتعالى إبليس الذي هو أصل الشرّ ، ونهى العباد عن متابعته وحذّر منه ، واختبر الحق سبحانه جيوش طالوت بعدم الشرب من النهر ، ولعل الحكمة من وراء هذا الاختبار تنبيه الناس في ذلك الزمان الى أن السحر ليس بالشيء العظيم الذي لايناله إلا الخاصة وأصحاب العقول كما كان يظن كثير من الناس
ونأتي هنا على النوع الثاني من السحر وهو التفريق وإلقاء البغضة بين الزوجين كما جاء في قوله تعالى { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} وهذا يدل على أن للسحر حقيقة ، وفيه ما يفرق بين المرء وزوجه، أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين ، مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف وهذا من صنيع الشياطين ، كما ورد في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الشيطان ليضع عرشه على المــــاء ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كـذا وكذا فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئاً ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت
وتشير الآية إلى أن هناك ضرراً يحصل بسبب السحر ولكن بمشيئة الله وبعد إذنه ، قال تعالى{ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله "ويفهم من هذه الآية أنه إذا نفذت مشيئة الله يقع الضرر المترتب على السحر للأشخاص · وبإذنه هنا يعني بحكمه وقضائه لا بأمره ، وكما قال ابن العربي رحمه الله ؛ وهذه الآية مصرحه بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولذلك فإن الساحر لا يستطيع أن يؤثر بسحره إذا لم يشأ الله ذلك ، وفي هذا توجيه لقلوب العباد كي تقصد معبودها وباريها دون غيره ، فعليه التوكل وهو المرتجى ولا حول ولا قوة إلا به - أحكام القرآن 1/31 ·
رأي الشريعة الإسلامية في السحر
تعريف السحر من حيث اللغة : يطلق السحر في لغة العرب على كل شيء خفي سببه ولطف ودقّ ، كما يوصف البيان بالسحر ومنه قول الرسول :" إن من البيان لسحرا " وذلك لأنه يروق للسامعين ويستميل قلوبهم ويغلب على نفوسهم
تعريف السحر في اصطلاح العلماء
عرف ابن قدامة السحر بقوله :" هو عقد ورقي وكلام يتكلم به أو يكتبه ، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له ، وله حقيقة ، فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه من وطئها ، ومنه ما يفرّق بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما الى الآخر ، أو يحبب بين اثنين "· المغني /ابن قدامة جـ10 - 104